رابعة العدوية


*انقضى قرن الصحابة والتابعين _أولئك الرجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه _بعدأن أنجب واحدة من أشهر أعيان عصرها ، زاهدة ، سرى ذكرها في الآفاق ،وبقيت سيرتها ،وأقوالها على ألسنة الناس متعاقبة على مر الأزمان .
*وفي العقد العاشر من القرن الهجري الأول ، وفي بيت فقير من بيوتات آل عتيك القبيلة القيسية ، كان ميلاد أم الخير رابعة بنت اٍسماعيل العدوية البصرية التى أولتها أسرتها_ على الرغم من فقرها_عناية خاصة.
 *وبينما كانت رابعة مع أسرتها ضمن قافلة بهجوم مروع من قبل قطاع الطرق ،وكانت رابعة أحدى ضحايا ذلك الهجوم ، اذا أخذت أسيرة ،وعرضت للبيع في أحد أسواق الرقيق، فشروها بثمن بخسٍٍ، فكان قدرها أن سيدها يحترف مهنة الغناء ويمتلك عددا من الجواري، والعبيد يسخرهم لتلك المهنة ،يتجول بهم في الأصقاع وتستضيفهم بعض قصور الأمراء والولاة، وكبارالتجار.
 *نالت رابعة حظوة خاصة، وذاقت لذة حياة الترف ، الا أن قلبها لم يطمئن قطّ، لهذا النوع من الحياة ، فظلت تعاني من ذلك ايما معاناة! وفي ظلّ تلك المعاناة بقيت دابئة التفكيرفي مصيرها،بيد أن معاناتها الأشد ،ومحنتها الحقيقة بدأت عندما قادها تفكيرها الى التوبة من تلك الحياة وترك العمل الذي أجبرت على ممارسته زمنا من عمرها ، فتعرضت_نتيجة لذلك _لأبشع أنواع التعذيب من قبل سيدها،علها ترجع عن قرارها، الا أن تعذبيها وسجنها وحرمانها من الطعام لفترات لا يتحملها الانسان العادي لم يثنها عن قرارها، فتحملت وصبرت على عذابات المخلوقين واتجهت نحو الخالق تعبده وتناجيه، حتى فرج الله عنها كربها، وأكسبها حريتها على يد رجل صالح اشتراها وأعتقها.*وبعدأن تحررت رابعة العدوية من قيود الرق والعبودية بدأت مرحلة جديدة من حياتها وهي الاستمرارفي محاربة شهوات النفس ،مستعينة بالله _سبحانه وتعالى _ متخذة الابتعاد عن الناس وسيلة، والاكثار من الصلاة والصوم سلوكاوطريقة ،حتى قيل:أنها كانت تقوم الليل كله ، فاذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فتنهض فزعة وتقول:((يانفس كم تنامين! والى كم تنامين ! يوشك أن تنامي نومة لاتقومين منها الا لصرخة يوم النشور)). ومع هذا فأنها كانت تخفي الكثير من حسناتها، فمن قولها لأتباعها،(( اكتموا حسناتكم ،كما تكتمون سيئاتكم )) يدل على الكتمان.
*وهكذا انقطعت رابعة عن الدنيا ، ولم تغرها ملذاتها،كما لم تخضعها قسوتها فقد قيل :((أنه لم يعرف عنها أنها طلبت أحدا متاعا من متاع الدنيا))، وأنها لماسئلت عن ذلك أجابت :((كيف أسأل الدنيا ممن لايملكها))؟*وقداشتهرت رابعة بحبها لله _سبحانه وتعالى _ كانت ترى أن قلبها خال من أي هوى يدركه الزوال، وأنها تشتاق الى هوى أثبت تماسكا، يربط بينها وبين عالم خالد ، فنذرت نفسها لله تعالى بعد أن سطع في قلبها نور ، ولرابعة في حبها لله الكثير من الأدعية والمناجاة شعرا ونثرا.
*ولم ترحل رابعة عن الدنيا الا وقد نالت شهرة لم تنلها الا نساء معدودات ،فكانت أحدى أعلام عصرها يفد اليها عددكبير من الزهاد والعباد، ويلتف حولها عدد كبير من الطلاب والتلاميذ يحضرون مجالس ذكرها بلهف ، ويستمعون الى أقوالها بحرص، وبعد أن جاوزت الثمانين من العمر، ودعت طلابها وودعوها ، وعيونهم تفيض من الدمع .

تعليقات

المشاركات الشائعة